جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. اشترط كثير من العلماء أن يكون التيمم بتراب له غبار يعلق باليد، ومنعوا التيمم بالرمل ونحوه مما لا غبار له، وألزموا المسافر أن يحمل معه التراب إذا سافر في أرض رملية، ولعل الصحيح جواز التيمم بالرمل؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" متفق عليه. تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة)
شرح كتاب الآجرومية
96821 مشاهدة
باب الاستثناء

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المؤلف -رحمه الله تعالى- باب الاستثناء: وحروف الاستثناء ثمانية وهي: إلا وغير وسِوى وسُوى وسواء وخلا وعدا وحاشا. فالمستثنى بإلا ينصب إذا كان الكلام تاما موجبا؛ نحو: (( قام القوم إلا زيدا )) و (( خرج الناس إلا عمرا )). وإن كان الكلام منفيا تاما جاز فيه البدل والنصب على الاستثناء؛ نحو: (( ما قام القوم إلا زيدٌ )) و (( إلا زيدا )). وإن كان الكلام ناقصا كان على حسب العوامل؛ نحو: ((ما قام إلا زيدٌ ))، و (( ما ضربت إلا زيدًا )) و (( ما مررت إلا بزيد )). والمستثنى بغير وسِوى وسُوى وسواء مجرور لا غير. والمستثنى بخلا وعدا وحاشا يجوز نصبه وجره؛ نحو: (( قام القوم خلا زيدًا وزيدٍ )) و (( عدا عمرا وعمرٍو))، و ((حاشا بكرًا وبكرٍ )).


هذا باب الاستثناء من المنصوبات. تعريف الاستثناء أنه الإخراج بإلا أو إحدى أخواتها ما لولاه لكان داخلا في الكلام. وأم الباب هي إلا. حروف الاستثناء كما سمعنا ثمانية، ولكن الأكثر هو الاستثناء بإلا.
ذكر أن الكلام إما أن يكون موجبا، وإما أن يكون منفيا ونحوه. فالموجب يلزم نصبه نصب المستثنى، وأما غير الموجب كالمنفي ونحوه فيجوز فيه النصب ويجوز فيه الإبدال وهو الرفع. هذا إذا كان موجبا أو منفيا. فيريدون بالموجب المثبت الذي فيه إثبات شيء إلا أنه استثني بعضه؛ فقول الله تعالى: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا ؛ هذا استثناء. نصبت لأن الكلام موجب يعني مثبت نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا وكذلك قوله تعالى: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ ؛ غير هذه من حروف الاستثناء، جُعل الذي بعدها مجرورا بالإضافة.
ذكروا أيضا أنه يجوز الاستثناء من الاستثناء؛ ومنه قوله تعالى في قصة قوم لوط بعدما ذكر كلام الملائكة أنهم قالوا لما قال: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ ؛ فهذا استثناء. إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ ؛ فهذا أيضا استثناء من الاستثناء.
وذكر اللغويون أن الاستثناء يكون لأقل من النصف، وفي النصف خلاف. إذا قلت: عندي عشرة إلا خمسة؛ هل يجوز ذلك؟ أما إذا قلت: عندي عشرة إلا اثنان، فهذا جائز. استثناء من المثبت. فهذا ونحوه هو كله بالكلام المثبت. الكلام المثبت؛ إذا قلنا مثلا: حضر الجماعة إلا زيدا؛ هذا يعتبر استثناء متصلا، ويعتبر الكلام موجبا يعني مثبتا. حضر القوم إلا عمرا؛ هذا كلام مثبت. وكذلك إذا قلت: اكتسبت أو كسب زيد مائة إلا واحدا، فهذا أيضا مثبت يعني موجب.
أما غير الموجب فهو الذي يصدر بنفي أو شبه النفي. ذكروا أنه يخير فيه؛ يجوز فيه النصب ويجوز فيه الإبدال. تتقدمه حرف نفي أو حرف استفهام؛ فتقول مثلا: ما جاء القوم إلا زيدا، ويقال مثلا: ما حضر الأولاد إلا سعدا؛ يجوز في زيد، وسعد النصب والرفع؛ لأنك إذا رفعته عطفته على الفاعل الذي هو مرفوع: ما حضر القوم إلا زيدٌ، ما حفظ الطلاب إلا سعدٌ؛ فيجوز سعدا وسعدٌ. هذا المصدر بنفي.
لكن إذا كان المستثنى من غير جنس المستثنى منه يلزم فيه النصب، إذا كان المستثنى من جنس آخر؛ مثل: ما حضر القوم إلا حمارا، فإنه يقال له المنقطع.
فالحاصل. . أن المستثنى: إما أن يكون موجبا؛ نحو: حضر القوم إلا سعدا، هذا موجب. إثبات حضوره؛ حضر القوم إلا سعدا. أو يكون غير موجب وهو المنفي؛ ما حضر القوم إلا سعدا، وإلا سعدٌ، هل حضر القوم إلا سعدا، أو إلا سعدٌ. هذا لأن سعد من جنس القوم. فإذا لم يكن من جنسهم؛ إن قلت مثلا: ما حضر القوم إلا حمارا، فإنه يلزم فيه النصب.
أما الاستثناء بغير فإنه يكون مضافا، ومثلنا بقوله تعالى: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وكأنه منزل منزلة الكلام الناقص؛ الذي سمعنا أنه على حسب العوامل. الكلام الناقص يكون الاستثناء فيه أو المستثنى على حسب العوامل: ما رأيت إلا زيدا، ما مررت إلا بزيد، ما قام إلا زيد، ما جاء إلا أخوك، ما رأيت إلا أخاك، ما مررت إلا بأخيك، فيكون الكلام يسمى ناقصا. ويسمى أيضا استثناء مفرغا. أي الاستثناء المفرغ هو الذي ذكر المستثنى ولم يذكر المستثنى منه.
فالحاصل أن الاستثناء بإلا إما أن يكون موجبا، وإما أن يكون منفيا. فالموجب منصوب المستثنى، والمنفي يخير فيه بين النصب والرفع فيسمى الرفع إبدالا ويسمى النصب استثناء. والاستثناء المفرغ يكون على حسب العوامل.
والاستثناء بغير وسِوى وسُوى وسواء يكون مضافا. كله مجرور. والاستثناء بخلا وعدا وحاشا: يجوز فيه النصب، ويجوز فيه الجر؛ فتعد هذه الحروف من حروف الجر، تقول مثلا: جاء القوم خلا زيدا، وخلا زيد. وجاء القوم عدا بكرا، وعدا بكر. وجاء القوم حاشا عمرا، وحاشا عمرو.
ثم الاستثناء يعتبر من المخصصات ؛ ذلك لأن المستثني يخصص بعض الأشياء من الكلام؛ ولأجل ذلك تكلم فيه الفقهاء، وتكلم فيه الأصوليون، وتكلم فيه النحويون، وفصلوا فيه وذكروا أمثلة وذكروا أنواعا؛ وما ذاك إلا أنه يحتاج إلى معرفة أنواعه، فعرفوه كما قلنا بأن قالوا: الاستثناء هو الإخراج بإلا أو إحدى أخواتها ما لولاه لكان داخلا في الكلام.
واختلف هل المستثنى مثبت أم ليس مثبتا؟ . والصحيح أنه ليس بمثبت؛ والدليل عليه: ما وجد في كلمة الشهادة لا إله إلا الله؛ فإن الاستثناء هنا من الآلهة الباطلة، أي لا إله حقا إلا الله، ومثلها أيضا قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ إلا اللهَ هنا الاستثناء مفرغ. ومعناه أنكم اعتزلتموهم واعتزلتم معبوداتهم إلا الله. وكذلك أيضا يأتي بعد جملة كما في قول إبراهيم إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فالمستثنى هنا إلا الذي فطرني. ومعناه أنه استثنى من معبوداتهم ربه، واستدلوا بذلك على أنهم يعبدون الله تعالى ويعبدون غيره. وكذلك ما حكى الله عنه أنه قال: أفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ فالاستثناء هنا غير مفرغ بل موجب؛ ولذلك نصب إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ويأتي أيضا في جمل مثل قوله تعالى: وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ .. يعني أنه من الأنبياء. وقال تعالى: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ بعد ما ذكر أنه أهلكهم لما كذبوه؛ سَلَامٌ عَلَى إِلْيَاسِين إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ فكثيرا ما يستثني عباد الله إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ فالحاصل أن الاستثناء هنا استثناء من المعبودات.
فدل على أن إلا تأتي لنفي ما كان مثبتا؛ فلذلك يقولون: الاستثناء من الإثبات نفي، والاستثناء من النفي إثبات. أنت مثلا إذا قلت: ما حفظ القرآن أحد إلا خمسةٌ؛ نفيت الحفظ ثم استثنيت خمسة. يجوز في خمسة النصب والرفع؛ إن رفعته فهو معطوف على أحد، وإن نصبته فهو منصوب على الاستثناء. وكذلك الاستثناء من الإثبات نفي؛ إذا قلت مثلا: حفظ القوم القرآن إلا خمسة. الحافظون يعني هم الأكثرون استثني خمسة. فالحاصل.. أن هذا دليل على أن الاستثناء يأتي للإثبات ويأتي للنفي. فهذا هو السبب في كونهم بحثوه في كتب أصول الفقه، وفي كتب الفقه، في باب الإقرار وفي الأيمان وما أشبهها، والله أعلم.
س: ما نوع الاستثناء في هذه الآية فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ؟
يقول العلماء: إن هذا من الاستثناء المنقطع يعني أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، أن إبليس ليس من الملائكة، ولكنه دخل معهم بالخطاب؛ فلذلك نصب؛ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وبعضهم يقول: إنه كان من الملائكة ثم لما أنه عصى طرد ولعن وكان من الجن.